أثار ذبح 21 مصرياً في ليبيا على يد "داعش"، وقيام المقاتلات المصرية بشن غارات على بعض معسكرات ومناطق تمركز وتدريب ومخازن أسلحة وذخائر ذلك التنظيم الإرهابي بالأراضي الليبية تساؤلات حول المخاطر المحتملة على العمالة المصرية الموجودة في مناطق العنف، وخيارات الحكومة المصرية خلال الفترة المقبلة في التعامل مع تهديدات بمزيد من قتل العمالة، وكذلك حدود تأثير الضربة على الداخل المصري.
ويبرز رأيان يتفق كلاهما على أن التدخل العسكري في ليبيا هو إجراء تحتمه ضرورات الأمن القومي المصري، وهو مبرر لحماية حدود مصر الغربية والحفاظ على مصالح البلاد، لكن ثمة من يرى ضرورة استكمال هذا التدخل لأمد طويل، وثمة من يعتقد أنه نظراً لخطورة الوضع في ليبيا، فإنه لا يجب على مصر أن تطور العمليات أبعد من الضربات الجوية.
وبين هذا وذاك يمكن القول إن مصر سوف تتخذ خطوات إضافية في استهداف إرهابيي "داعش" في ليبيا، حيث أكد الرئيس عبدالفتاح السياسي أن ثمة ضربات أخرى لاحقة يمكن أن تكون بمشاركة أصدقاء آخرين.
دوافع التحرك المصري
1 ـ تمدد التنظيم والرغبة في التوسع على المستوى الاستراتيجي: باعتباره ينظر إلى سيناء وليبيا كساحة حربية واحدة، واستيلائه الكامل على مدينتي درنة وسرت وإعلان تبعيتها لـلدولة الإسلامية. فقد أشار أبو أرحيم الليبي إلى ليبيا على أنها "البوابة الاستراتيجية لـتلك الدولة المزعومة، وحث الإخوان القادة الجهاديين في ليبيا "على الاقتداء بإخوانهم في درنة" من أجل "إنشاء جبهة غربية ستلتقي مع إخوانهم في "أنصار بيت المقدس"، وهي جماعة تابعة لـتنظيم "داعش" في شبه جزيرة سيناء.
2 ـ اتساع خريطة فقدان السيطرة من قبل المؤسسات الشرعية: وذلك في كثير من المناطق، خصوصاً التي بها عمالة مصرية، مثل منطقة الهلال النفطي وجنوب سرت وغرب طرابلس، بالإضافة إلى تحول مدينة درنة إلى ملعب لاستقطاب المقاتلين الأجانب، ومعسكرات للسلاح والذخيرة.
3 ـ الزيادة المضطردة في أنشطة التنظيم اللينة والصلبة، خصوصاً في مناطق الحدود المشتركة مع مصر، بما فيها الأنشطة الرامية إلى تجنيد محاربين مخضرمين من "أنصار الشريعة في ليبيا". وحتى لو كان حضور تنظيم "داعش" العسكري على الأرض محدوداً في الوقت الراهن، فإن مؤيديه يضعون أسساً لاستراتيجية طويلة الأمد في ليبيا وبقية شمال أفريقيا.
4 ـ جغرافية الدور: حيث إن موقع مصر الجغرافي يفرض عليها في هذا التوقيت بعد انهيار دولتي المشرق العربي "سوريا والعراق" وتباطؤ الاستراتيجية الأمريكية في مواجهة "داعش"، بالإضافة إلى أزمة اليمن التي تهدد مباشرة سلامة الأمن القومي المصري في البحر الأحمر عند باب المندب، والحفاظ على هيبتها من خلال قدرتها على مواجهة الإرهاب خارج أراضيها.
مكاسب رد الفعل المصري
في ظل تنوع دوافع التحرك المصري لتوجيه ضربة جوية مركزة ضد معسكرات ومناطق تمركز وتدريب ومخازن أسلحة وذخائر تنظيم "داعش" الإرهابي بالأراضي الليبية، فإن ثمة إرهاصات لبناء وتشكل دور مصري قادر على تجاوز التهديدات المضاعفة وتحويلها إلى فرص سانحة يمكن توظيفها لخدمة الداخل، وهو ما سينعكس بشكل مباشر على محورية الدور المصري، وتعزيز قدرته على استعادة التأثير في محيطه، ويمكن تفصيل أبرز هذه الفرص المتاحة في التالي:
1 ـ تقوية تماسك الجبهة الداخلية: تشكل ردود أفعال الداخل المصري، والتي جاءت مؤيدة لقيام القوات المسلحة بسلسة من الضربات العسكرية على معسكرات تنظيم "داعش" في ليبيا رغبةً في استعادة الهيبة المصرية إقليمياً، والتحرك الفعال لمواجهة أي مساس بكرامة المصريين، وهو ما يشكل فرصة لإعادة ترتيب أولويات قضايا الشأن المصري، والتي بلا شك سيكون في مقدمتها إيجاد حالة من الاصطفاف الوطني ونبذ الخلافات السياسية، لاسيما أن التناحر بين القوى السياسية والحزبية شكل أحد الملامح التي رسمت تفاعلات المشهد السياسي في الآونة الأخيرة.
2 ـ مزيد من تعزيز شرعية الرئيس السيسي: إذا كان الرئيس السيسي قد حاز على الشرعية الانتخابية بعد حصوله على ما يقرب من 97% من أصوات الناخبين في الانتخابات الرئاسية التي أجريت في يونيو 2014، فإن هذه الضربات ونجاحها في تحقيق أهدافها بنسبة 90% وفقاً لتصريحات القادة العسكريين في ليبيا، ربما ستسهم وفق اتجاهات عديدة في تعزيز شرعية الرئيس السيسي، الذي تميز رد فعله والدولة المصرية بالرد السريع والمناسب.
3 ـ تدعيم استقلالية القرار المصري: ظلت الانتقادات التي توجه لصانع القرار المصري حتى قيام الثورة المصرية بموجتيها تتمحور حول عدم استقلالية القرار الوطني في ظل علاقات التبعية بالغرب، غير أن أحد أهداف ثورة 30 يونيو التي نادت بهذه الاستقلالية وجدت طريقها في ميول السيسي الاستقلالية عن القوى الغربية، والتي تجلت بشكل صريح في عدم استشارتها في تحركات وقرارات الثالث من يوليو 2013 من ناحية، والتوجه نحو تعزيز العلاقات المصرية مع القوى الكبرى، سواء الصين أو روسيا من ناحية أخرى، فضلاً عن الاتجاه لتنويع مصادر التسلح العسكري، وهو وما برز مؤخراً في صفقة طائرات "رافال" الفرنسية التي تزامنت مع الضربات الجوية المصرية في ليبيا.
ولا شك أن هذه المؤشرات تصب في اتجاه تعزيز وتدعيم استقلالية القرار الوطني وتخليصه من كل مظاهر التبعية، بل وتوجيه انتقادات لأخطاء القوى الغربية في التعامل مع ليبيا، وهو ما أشار إليه الرئيس السيسي مؤخراً بالقول "لقد حان الوقت لتدارك أخطاء الناتو في ليبيا".
4 ـ بناء اصطفاف أمني عربي لمكافحة الإرهاب: يشكل التحرك العسكري المصري في ليبيا بالتنسيق مع القوات المسلحة الليبية نواة أساسية لتشكيل قوات تدخل سريع عربية أو البحث في مدى إمكانية إحياء اتفاقية الدفاع العربي المشترك. وربما يمثل التوجه المصري خطوة على هذا الطريق، حيث أكد السفير بدر عبدالعاطي، المتحدث باسم وزارة الخارجية المصرية، بأن وزير الخارجية سامح شكري أعلن عن وجود أفكار يتم التشاور حولها بين القادة العرب بشأن تشكيل قوة عربية موحدة لحماية أمن الخليج والأردن، وسوف تطرح على أجندة القمة العربية المقرر عقدها بالقاهرة في مارس 2015.
5 ـ المساهمة في وقف المشروع التفتيتي للدول العربية: من المرجح أن تساهم الضربات الجوية المصرية في دعم قوى الاستقرار، وتحييد قوى التفتيت والتشرذم، وهو ما يتطلب من الدول الغربية ضرورة اتخاذ إجراءات فاعلة لتجفيف منابع الإرهاب فيما يخص التمويل، وتشديد الإجراءات التشريعية والأمنية، ومراقبة بيع الأسلحة والمعدات العسكرية المتقدمة، والحيلولة دون وصولها للتنظيمات الإرهابية، وفي مقدمتهم مقاتلي تنظيم "داعش"، فضلاً عن ضرورة منع اللجوء السياسي لأعضاء التنظيمات الإرهابية، ومنع مزاولتهم الأنشطة أو استخدام المنابر الإعلامية الغربية بحجة الحريات، وهو ما يشكل حواضن مواتيه لتمدد هذه التنظيمات.
تحديات ماثلة
على الرغم من الفرص التي يتيحها التحرك المصري العسكري في ليبيا من خلال الضربات الجوية، فإن ثمة قيوداً على حدود هذا التحرك، تتمثل في جملة من التحديات، يمكن إبرازها في التالي:
1 ـ القدرة على استعادة النموذج: ارتبطت ريادية النموذج المصري في فترات سابقة بتعزيز أدوات القوة الناعمة المتمثلة في التعليم والفن والثقافة ودور الأزهر الشريف، وهي المقومات الأساسية التي ساهمت في جعل النموذج المصري قابلاً للانتشار والتقليد. فمصر وإن كانت بالأساس بلداً منتجاً للثقافة والفن، إلا أن تراجع هذا الدور لصالح التدخل العسكري - وإن كانت تقتضيه المصلحة الوطنية - سيتوقف على مدى تقبله عربياً وحدود نجاحه في تحقيق أهدافه في اجتثاث الإرهاب، وإعادة تأهيل الأجهزة الأمنية، ودعم المؤسسات المنتخبة من الشعب الليبي.
2 ـ مأزق العمالة المصرية: يشكل مأزق العمالة المصرية الموجود في ليبيا أحد أبرز التحديات الماثلة أمام التحرك المصري، لاسيما أن ما يزيد على مليون مصري موجودون في ليبيا، وهو تحدٍ مزدوج يرتبط باحتمال أن تقوم العناصر المتطرفة بتوجيه ضربات انتقامية منهم على خلفية الضربات الجوية، ويرتبط بإجراءات تأمين عودتهم وانعكاسات ذلك على الاقتصاد المصري في ظل ارتفاع نسبة البطالة، وهو ما سيوجد ضغوطاً اجتماعية واقتصادية حال إجلائهم جميعاً.
3 ـ التنافس الإقليمي والدولي: باتت ليبيا ساحة لصراع إقليمي ودولي في ظل ما تزخر به الأراضي الليبية من موارد نفطية هائلة، فضلاً عن رغبة القوى الكبرى والشركات الدولية في حال استقرار الأوضاع في الفوز بعقود إعادة الإعمار، هذا علاوة على انتشار المرتزقة وتجار السلاح وجماعات الجريمة المنظمة في عموم ليبيا الآن.
خيارات التعامل
ربما يفرض تصاعد مخاطر "داعش" على العمالة المصرية في ليبيا، وتهديها للمحيط الإقليمي المصري، عدة خيارات أمام مصر، وهي:
1 ـ استمرار قيام المقاتلات المصرية بشن غارات جوية على معسكرات ومناطق تمركز وتدريب "داعش" في الأراضي الليبية. وهذا الخيار قد يرتبط بتنفيذه تهديد حياة العمالة المصرية المنتشرة في مناطق الهلال النفطي، باعتبارها مناطق تمركز جديدة "لداعش". ولهذا أكدت الخارجية المصرية ضرورة التزام المصريين هناك بأقصى درجات الحذر، وضرورة الابتعاد عن مناطق الاشتباكات أو العودة للوطن.
2 ـ إشراك مصر في القضاء على الإرهاب في ليبيا في إطار المشروعية الدولية وبقرارات من مجلس الأمن، ضمن قوات دولية قد تشكل لهذا الغرض. وهذا الخيار وجه إليه الرئيس السيسي دول العالم لاتخاذه، مطالباً بضرورة التعامل مع التنظيمات الإرهابية في إطار شامل بعيداً عن الانتقائية وازدواجية المعايير. ويعكس ذلك أيضاً أنه ربما لن يكون هناك عمل عسكري منفرد لأي دولة في ليبيا، وهو ما يقتضي مزيداً من التوافق الإقليمي والدولي حول كيفية القضاء على الإرهاب في ليبيا وتحقيق حوار سياسي ناجح.
3 ـ أما الخيار الثالث فهو العمل ضمن إطار إقليمي شامل مع دول الجوار المهددة، في إطار قرار من الجامعة العربية أو الاتحاد الأفريقي، وبالتالي ستكون المخاطرة على قضية العمال المصريين الموجودين في ليبيا (والذين يصل عددهم وفق تقديرات غير رسمية إلى حوالي مليون ونصف مليون عامل) أكثر خطورة.